فصل: تفسير الآية رقم (140)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي بعد قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ ما توعدون آتٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏ فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين، كما مرّ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم‏:‏ وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد، لِيُمْلِيَ لَهُمْ في ضلالهم إملاء يشعر، في متعارف التّخاطُب، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقاً للعقوبة، واقتراباً منها‏.‏ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُناديهم ويُهَدّدهم‏.‏ وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادَيْن، وكان المنادي عنوانَ القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏ لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه‏.‏

والنّداء‏:‏ للقوم المعاندين بقرينة المقام، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد، وأنّ عملهم مخالف لعمله، لقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا‏}‏ مع قوله ‏{‏إني عامل‏}‏‏.‏

فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏اعملوا‏}‏ للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيِّر ناصِحهم نُصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبَّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائهِ بالمأمور بأن يَفعل ما كان يُنهى عنه، فكأنّ ذلك المنهي صار واجباً، وهذا تهكّم‏.‏

والمكانة‏:‏ المَكان، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام، والدارةُ اسماً للدار، والماءة للماءِ الذّي يُنزل حوله، يقال‏:‏ أهل الماء وأهل المَاءة‏.‏ والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء، تشبَّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم دار السّلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه، فلذلك يقال‏:‏ «يا فلان على مَكانتك» أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرفْ عنه‏.‏

ومفعول ‏{‏اعملوا‏}‏ محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللاّزم، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ‏.‏

و ‏{‏عَلَى‏}‏ مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة‏.‏ لأنّ العلاوة تناسب المكان، فهي ترشيح للاستعارة، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه‏.‏ والمعنى‏:‏ الزموا حالكم فلا مَطمع لي في اتِّباعكم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏على مكانتكم‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏مَكانَاتِكم‏}‏ جمعَ مكانة‏.‏ والجمع باعتبار جمع المضاف إليه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إني عامل‏}‏ تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏اعملوا‏}‏ أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه، لكنّي مستمرّ على عملي، أي أنِّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله‏.‏ وحذف متعلّق‏:‏ ‏{‏إني عامل‏}‏ للتّعميم مع الاختصار، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر‏.‏

ورُتِّب على عملهم وعَمَلِه الإنذارُ بالوعيد ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد‏.‏

وحرف التّنفيس مراد منه تأكيد الوقوع لأنّ حرفَي التّنفيس يؤكّدان المستقبل كما تؤكّد ‏(‏قَدْ‏)‏ الماضي، ولذلك قال سيبويه في الكلام على ‏(‏لَن‏)‏‏:‏ إنَّها لنفي سَيفعل، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النّفي‏.‏ وهذا صريح في التّهديد، لأنّ إخبارهم بأنَّهم سيعلمون يفيد أنّه يعلم وقوع ذلك لا محالة، وتصميمه على أنَّه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدلّ على أنّه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم، ولولا ذلك لعَمِل عملهم، لأنّ العاقل لا يرضى الضرّ لنفسه، فدلّ قوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ على أنّ علمهم يقع في المستقبل، وأمّا هُو فَعَالِم من الآن، ففيه كناية عن وثوقه بأنَّه مُحِقّ، وأنَّهم مبطلون، وسيجيء نظِير هذه الآية في قصّة شعيب من سورة هود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من تكون له عاقبة الدار‏}‏ استفهام، وهو يُعلِّق فعل العِلم عن العمل، فلا يعطَى مفعولين استغناء بمُفاد الاستفهام؛ إذ التّقديرُ‏:‏ تعلمون أحدَنا تكون له عاقبة الدار‏.‏ وموضع‏:‏ ‏{‏من‏}‏ رفع على الابتداء، وجملة‏:‏ ‏{‏تكون له عاقبة الدار‏}‏ خبره‏.‏

والعاقبة، في اللّغة‏:‏ آخر الأمر، وأثر عمل العامل، فعاقبة كلّ شيء هي ما ينجلي عنه الشّيء ويظهرُ في آخره من أثر ونتيجة، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال‏:‏ عاقب الأمر، ولكن عاقبة وعُقْبى‏.‏

وقد خصّص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحَسَنَةِ، قال الراغب‏:‏ العاقبة والعقبى يختصّان بالثّواب نحو ‏{‏والعاقبة للمتّقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو ‏{‏ثمّ كان عاقبة الّذين أساءوا السُّوأى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 10‏]‏ وقَلّ من نبَّه على هذا، وهو من تدقيقه، وشواهدُه في القرآن كثيرة‏.‏

والدّار الموضع الّذي يحلّ به النّاس من أرض أو بناء، وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم دار السّلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏، وتعريف الدّار هنا تعريف الجنس‏.‏ فيجوز أن يكون لفظ ‏{‏الدار‏}‏ مطلقاً، على المعنى الحقيقي، فإضافةُ ‏{‏عاقبة‏}‏ إلى ‏{‏الدار‏}‏ إضافة حقيقية، أي حُسن الأخارة الحاصلُ في الدّار، وهي الفوز بالدّار، والفلج في النّزاع عليها، تشبيهاً بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمَراعي، وبذلك يكون قوله‏:‏ ‏{‏من تكون له عاقبة الدار‏}‏ استعارة تمثيلية مكنية، شُبّهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم، مع حالة المشركين، بحالة الغالب على امتلاك دار عَدُوّه، وطُوي المركَّب الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، ورُمز إليه بذكر ما هو من رَوادفه، وهو ‏{‏عاقبة الدار‏}‏، فإنّ التّمثيليّة تكون مصرّحة، وتكون مكنية، وإن لم يُقسِّمُوهَا إليهما، لكنّه تقسيم لا محيص منه‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏الدار‏}‏ مستعارة للحالة الّتي استقرّ فيها أحد، تشبيها للحالة بالمكان في الاحتواء، فتكون إضافة عاقبَة إلى الدار إضافة بيانية، أي العاقبة الحسنى الّتي هي حالُه، فيكون الكلام استعارة مصرّحة‏.‏

ومن محاسنها هنا‏:‏ أنّها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله‏:‏ ‏{‏اعملوا على مكانتكم‏}‏ فصار المعنى‏:‏ اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏.‏

وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أنّ عاقبة تلك الدار، أي بلد مكة، أن تكون للمسلمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ وقد فسّر قوله‏:‏ ‏{‏من تكون له عاقبة الدار‏}‏ بغير هذا المعنى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مَن تكون‏}‏ بتاء فوقيّة وقرأه حمزة، والكسائي، بتحتيّة، لأنّ تأنيث عاقبة غير حقيقي، فلمّا وقع فاعلاً ظاهراً فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التّأنيث وبدونها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ تذييل للوعيد يتنزّل منزلة التّعليل، أي لأنّه لا يفلح الظّالمون، ستكون عقبى الدار للمسلمين، لا لكم، لأنّكم ظالمون‏.‏

والتّعريف في ‏{‏الظالمون‏}‏ للاستغراق، فيشمل هؤلاء الظّالمين ابتداء، والضّمير المجعول اسم ‏(‏إنّ‏)‏ ضميرُ الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنّه أمر عظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

عَطفٌ على نظائره ممّا حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم من قوله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللَّه على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجنّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جَهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنّ بها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ وما تخلّل ذلك فهو إبطال لأقوالهم، ورد لمذاهبهم، وتمثيلات ونظائر، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قوله‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهذا ابتداءُ بيان تشريعاتهم الباطلة، وأوّلُها مَا جعلوه حقّاً عليهم في أموالهم للأصنام‏:‏ ممّا يشبه الصّدقات الواجبة، وإنَّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي‏.‏

والجعل هنا معناه الصّرف والتّقسيم، كما في قول عمر في قضيّة‏:‏ ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم المختصم فيها العبّاس وعليّ رضي الله عنهم «فيجعَلُه رسولُ اللَّه مجعل ماللِ اللَّه» أي يضعه ويصرفه، وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير، فكما جاء صيّر لمعان مجازية، كذلك جاء ‏(‏جعل‏)‏، فمعنى ‏{‏وجعلوا لله‏}‏‏:‏ صرفوا ووضعوا لله، أي عيّنوا له نصيباً، لأنّ في التّعيين تصييراً تقديرياً ونقلاً‏.‏ وكَذلِك قول النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحةَ‏:‏ ‏"‏ أرى أن تجعلَها في الأقربِين ‏"‏ أي أن تصرفها إليهم، و‏{‏جعل‏}‏ هذا يتعدّى إلى مفعول واحد، وهذه التّعدية هي أكثر أحوال تعديته، حتّى أنّ تعديته إلى مفعولين إنَّما ما في الحقيقة مفعولٌ وحالٌ منه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ذرأ‏}‏ أنشأ شيئاً وكثّره‏.‏ فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء‏.‏ و‏{‏ممّا ذرأ‏}‏ متعلّق ب ‏{‏جَعلوا‏}‏، و‏{‏من‏}‏ تبعيضية، فهو في معنى المفعول، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم، إذ ملَّكوا الله بعض مَلْكه، لأنّ ما ذرأه هو مِلْكُه، وهو حقيق به بلا جَعْل منهم‏.‏

واختيار فعل‏:‏ ‏{‏ذرأ‏}‏ هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم‏.‏ ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏من الحرث والأنعام‏}‏ بيان ‏{‏ما‏}‏ الموصولة‏.‏ والحرثُ مراد به الزّرع والشّجر، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن اغْدُوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والنّصيب‏:‏ الحظ والقِسْم وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏202‏)‏، والتّقدير‏:‏ جعلوا لله نصيباً ولغيره نصيباً آخر، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم‏.‏ وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله‏:‏ فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏‏.‏

والإشارتان إلى النّصيب المعيّن لله والنّصيب المعيّن للشركاء، واسما الإشارة مشار بكلّ واحد منهما إلى أحد النّصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم‏.‏

والزّعم‏:‏ الاعتقاد الفاسد، أو القريب من الخطأ، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك في سورة النساء ‏(‏60‏)‏، وهو مثلّث الزاي، والمشهور فيه فتح الزاي، ومثله الرّغم بالرّاء مثلّث الراء‏.‏ «

وقرأ الجمهور بفتح الزاي وقرأه الكسائي بضمّ الزاي ويتعلّق قولهم‏:‏ بزعمهم‏}‏ ب ‏{‏قالوا‏}‏ وجُعل قوله‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏ موالياً لبعض مقول القول ليكون متّصلاً بما جعلوه لله فيرتَّبُ التّعجيب من حكمهم بأنّ ما كان لله يصل إلى شركائهم، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتّى نكلوا عنه وأشركوا شركاؤهم فيماجعلوه لله بزعمهم‏.‏

والباء الداخلة على ‏{‏بزعمهم‏}‏ إمّا بمعنى ‏{‏مِن‏}‏ أي، قالوا ذلك بألسنتهم، وأعلنوا به قولاً ناشئاً عن الزعم، أي الاعتقاد الباطل، وإمّا للسببيّة، أي قالوا ذلك بسبب أنّهم زعموا‏.‏ ومحلّ الزّعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وبين الآلهة، وإلاّ فإنّ القول بأنّه ملك لله قول حقّ، لكنّهم لما قالوه على معنى تعيين حقّ الله في ذلك النّصيب دون نصيب آخر‏.‏ كان قولهم زعماً باطلاً‏.‏

والشّركاء هنا جمع شريك، أي شريك الله سبحانه في الإلهية، ولمّا شاع ذلك عندهم صار كالعَلم بالغلبة، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتقّ منه أعني الشّركة ثمّ لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللّقب، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم، فقالوا‏:‏ لشركائنا، إضافة معنوية لا لفظيّة، أي للشّركاء الّذين يُعرفون بنا‏.‏ قال ابن عبَّاس وأصحابه‏:‏ كان المشركون يجعلون لله من حروثهم ‏(‏يعني زرعهم وشجرهم‏)‏ وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للأصنام أنفقوه عليها وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة‏.‏

وكانوا يجعلون البَحيرة والسائبة والوصيلة والحامي للأصنام‏.‏ وذكر ابن إسحاق‏:‏ أنّ ‏(‏خَوْلاَن‏)‏ كان لهم صنم اسمه ‏(‏عَمّ أنَس‏)‏ يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قِسَما بينه وبين الله، فما دخل في حق ‏(‏عَمّ أنس‏)‏ من حَقّ الله الّذي سَمَّوه له تركوه للصّنم وما دخل في حقّ الله من حقّ ‏(‏عَمّ أنس‏)‏ ردّوه عليه، ومنهم بطن يقال لهم ‏(‏الأدِيم‏)‏ قال‏:‏ وفيهم نزل قوله تعالى‏:‏ وجعلوا لله مما ذرأ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم‏}‏‏.‏ قال ابن عبّاس وقتادة‏:‏ كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الرّيح فحملت من الّذي لله إلى الّذي لشركائهم أقَرّوه وقالوا‏:‏ إنّ الله غنيّ عنه، وإذا حملت من الّذي لشركائهم إلى الّذي للَّهِ ردّوه، وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله ممّا لله، ولا يفعلون ذلك فيما لله، وإذا انفجر من سقي ما جعلوه لله فساح إلى ما للّذي للأصنام تركوه وإذا انفجر من سقي ما للأصنام فدخل في زرع الّذي لله سَدّوه‏.‏

وكانوا إذا أصابتهم سَنَةٌ استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقرّوا ما جعلوه لشركائهم للشركاء، وإذا هلك الّذي جعلوه للأصنام وكثر الّذي جعلوه لله قالوا‏:‏ ليس لآلهتنا بدّ من نفقة وأخذوا الّذي جعلوه لله فأنفقوه عليها، وإذا أجدب الّذي لله وكثر الّذي لآلهتهم قالوا‏:‏ لو شاء الله أزكى الّذي له فلا يردّون على ما جعلوه لله شيئاً ممّا لآلهتهم، فقوله‏:‏ ‏{‏فلا يصل إلى الله‏}‏ مبالغة في صونه من أن يعطى لما لله لأنَّه إذا كان لا يصل فهو لا يُتْرك إذا وَصل بالأوْلى‏.‏

وعدّي ‏{‏يصل‏}‏ إلى اسم الجلالة وإلى اسم شركائهم‏.‏ والمراد لا يصل إلى النّصيب المجعول لله أو إلى لشركائهم لأنَّهم لما جعلوا نصيباً لله ونصيباً لشركائهم فقد استشعروا ذلك النّصيب محوزاً لمن جُعل إليه وفي حرزه فكأنّه وصل إلى ذاته‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ استئناف لإنشاء ذمّ شرائعهم‏.‏ وساء هنا بمعنى بِئس‏:‏ و‏{‏مَا هي فاعل ساء‏}‏ وهي موصولة وصلتها ‏{‏يحكمون‏}‏، وحذف العائد المنصوب، وحذف المخصوص بالذّم لدلالة‏:‏ ‏{‏جعلوا‏}‏ عليه، أي‏:‏ ساء ما يحكمون جَعْلُهم، وسمَّاه حكماً تهكّما، لأنَّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق، ففَصَلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يَأخذ الله حقّ الأصنام، فكان حكماً باطلاً كقوله‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهليّة يبغون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

عطفٌ على جملة‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ والتقدير‏:‏ جَعَلوا وزيَّنَ لهم شركاؤُهم قتلَ أولادِهم فقتلوا أولادَهم، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذُرّيَّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم‏.‏ ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حَسَّن أقبح الأشياء وهو قتْلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يَسَعْه إلاّ أن يشبهه بنفسه لأنَّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهرَ منه في بابه، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه، على حدّ قولهم «والسّفاهة كاسمها»‏.‏ والتّقدير‏:‏ وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزييناً مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم، وهُو هُو نفسه، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

ومعنى التّزيين التّحسين، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك زيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم‏}‏ في هذه السورة ‏[‏108‏]‏‏.‏ ومعنى تزيين ذلك هنا أنَّهم خيَّلوا لهم فوائد وقُرَباً في هذا القتل، بأن يُلقوا إليهم مَضرّة الاستجداء والعار في النّساء، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة، وأنَّهنّ يُجَبِّنّ الآباء عند لقاء العدوّ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن، فقتلهنّ أصلَحُ وأنفع من استبقائهن، ونحوَ هذا من الشّبه والتّمويهات، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم، فإنّ العرب كانوا مُفرطين في الغيرة، والجموح من الغلب والعار كما قال النّابغة‏:‏

حِذَاراً على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولا نسوتي حتَّى يَمُتْنَ حَرائراً

وإنَّما قال‏:‏ لكثير من المشركين‏}‏ لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل، وكان في ربيعة ومضر، وهما جمهرة العرب، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله‏.‏

وأسند التّزيين إلى الشّركاء‏:‏ إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاءِ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم، أو بشرع وضعه لهم مَن وضَع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقاً في أموالهم مثل عَمْرو بن لُحَي، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازاً عقلياً لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطةٍ أو بواسطتين، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أغنت عنهم آلِهَتُهم التي يَدْعُون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏

والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأْد، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏، وخشيةَ أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها، أو مخافة السّباء، وذكر في «الروض الأنُف» عن النّقّاش في «تفسيره»‏:‏ أنَّهم كانوا يئدون من البنات من كانت زَرقاء أو برشاء، أو شَيْماء، أو رَسْحاءَ، تشاؤما بِهنّ وهذا من خَوَر أوْهَامهم وأنّ ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإذا الموءودة سُئِلت بأي ذنب قتلت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 8، 9‏]‏، وقيل‏:‏ كانوا يفعلون ذلك من شدّة الغيرة خشية أن يأتين ما يَتعيَّر منه أهلهنّ‏.‏

وقد ذكر المبرّد في «الكامل»، عن أبي عبيدة‏:‏ أنّ تميماً مَنَعت النّعمانَ بن المُنذر الإتاوة فوجّه إليهم أخاه الريان بن المنذر فاستاق النّعم وسبَى الذّراري، فوفدت إليه بنو تميم فأنابوا وسألوه النّساء فقال النّعمان‏:‏ كلّ امرأة اختارت أباها رُدّت إليه وإن اختارت صاحبها ‏(‏أي الّذي صارت إليه بالسبي‏)‏ تُركت عليه فكُلّهنّ اختارت أباها إلاّ ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبَها عمرو بن المشمرِج، فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلاّ قتلها فهذا شيء يَعتلّ به مَنْ وأدوا، يقولون‏:‏ فعلناه أنفة، وقد أكذب الله ذلك في القرآن، أي بقوله‏:‏ ‏{‏قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏‏.‏

وذكر البخاري، أنّ أسماء بنت أبي بكر، قالت‏:‏ كان زيدُ بن عَمرو بن نُفَيل يُحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته‏:‏ لا تقتُلْها أنا أكفيكَ مؤونتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها‏:‏ إن شئتَ دفعتُها إليك وإن شئتَ كفيتك مؤونتها‏.‏ والمعروف أنَّهم كانوا يئدون البنت وقت ولادتها قبل أن تراها أُمّها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذَا بشِّر أحدهم بالأنْثى ظَلّ وجهه مُسْوَدّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سُوء ما بشِّر به أيُمْسِكه على هُون أم يدسّه في التّراب ألاَ ساء ما يحكمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏ وكان صعصعة بن معاوية من مجاشع، وهو جدّ الفرزدق، يفدي الموءودة، يفعل مثل فعل زيد بن عمرو بن نفيل‏.‏ وقد افتخر الفرزدق بذلك في شعره في قوله‏:‏

ومنّا الّذي منع الوائداتْ *** وأحيا الوئيد فلم تُوءَد

وقد أدرك جدّه الإسلام فأسلم‏.‏ ولا يعرف في تاريخ العرب في الجاهليّة قتل أولادهم غير هذا الوأد إلاّ ما ورد من نذر عبد المطّلب الّذي سنذكره، ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهليّة قبل عبد المطّلب أو أنّه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابَع عليه‏.‏ ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أيمّة الشّرك لقومهم، إذ لم يكونوا يصدرون إلاّ عن رأيهم، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءَهم، ومن معرّة الفاقة والسباء، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا، كما أشار إليه «الكشاف» إذ قال‏:‏ «والمعنى أنّ شركاؤهم من الشّياطين أو من سدنة الأصنام زيَّنوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو بالنّحر»‏.‏ وقال ابن عطيّة‏:‏ والشّركاء على هذه القراءة هم الّذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون‏.‏

وفي قصّة عبد المطّلب ما يشهد لذلك فإنَّه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور، ثمّ بلغوا معه أن يمنعوه من عدوّه، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة، فلمّا بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دَعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند ‏(‏هُبل‏)‏ الصّنم وكان ‏(‏هبل‏)‏ في جوف الكعبة، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين ‏(‏إساف‏)‏ و‏(‏نائلة‏)‏ فقالت له قريش‏:‏ لا تذبحْه حتّى تُعذِر فيه، فإن كان له فداء فديناه، وأشاروا عليه باستفتاء عَرّافة بخيبرَ فركبوا إليها فسألوها وقصّوا عليها الخبر فقالت‏:‏ قَرّبوا صاحبكم وقَرّبوا عشراً من الإبل ثمّ اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجتْ على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتّى يرضى رَبّكم، وكذلك فعلوا فخرج القِدح على عبد الله، فلم يزل عبد المطلب يزيد عشراً من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القِدح على عبد الله حتّى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القِدح على الإبل فنحرها‏.‏

ولعلّ سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرّب إلى أصنام بعض القبائل ‏(‏كما كانت سنّة موروثة في الكنعانيين من نَبط الشّام يقرّبون صبيانهم إلى الصنم ملوك، فتكون إضافة القتل إلى الشّركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زَيَّنَ‏}‏ بفتح الزاي ونصب‏:‏ ‏{‏قتل‏}‏ على المفعوليّة ل ‏{‏زيَّن‏}‏، ورفععِ شركاؤهم على أنّه فاعل‏:‏ ‏{‏زين‏}‏، وجرّ ‏{‏أولادهم‏}‏ بإضافة قَتْل إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏ وقرأه ابن عامر‏:‏ ‏{‏زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائِهم‏}‏ ببناء فعل ‏{‏زين‏}‏ للنّائب، ورفع ‏{‏قتل‏}‏ على أنه نائب الفاعل، ونصب ‏{‏أولادهم‏}‏ على أنَّه مفعول ‏{‏قتل‏}‏، وجَرّ ‏{‏شركائهم‏}‏ على إضافة ‏{‏قتل‏}‏ إليه من إضافة المصدر إلى فاعله، وكذلك رسمت كلمة ‏{‏شركائهم‏}‏ في المصحف العثماني الّذي ببلاد الشّام، وذلك دليل على أنّ الّذين رَسموا تلك الكلمة راعوا قراءة ‏{‏شركائهم‏}‏ بالكسر وهم من أهل الفصاحة والتّثبت في سند قراءات القرآن، إذا كتب كلمة ‏{‏شركائهم‏}‏ بصورة الياء بعد الألف، وذلك يدلّ على أنّ الهمزة مكسورة، والمعنى، على هذه القراءة‏:‏ أنّ مزيِّنا زَيَّن لكثير من المشركين أن يَقْتُلَ شركاؤُهم أولادَهم، فإسناد القتل إلى الشّركاء على طريقة المجاز العقلي إمّا لأنّ الشّركاء سبب القتل إذا كان القتل قُرباناً للأصنام، وإمَّا لأنّ الّذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشّرك مثل عمرو بن لُحي ومن بعده، وإذا كان المراد بالقتل الوأْدَ، فالشركاء سببَ وإن كان الوأد قُرباناً للأصنام وإن لم يكن قرباناً لهم ‏(‏وهو المعروف‏)‏ فالشركاء سبب السبب، لأنه من شرائع الشرك‏.‏

وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام لأنّ الإعراب يُبيِّن معاني الكلمات ومواقعها، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجرّ بحيث لا لبس فيه، وكلماتها ظاهرٌ إعرابها عليها، فلا يعدّ ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التّعقيد المخلّ بالفصاحة، مثل التّعْقيد الّذي في قول الفرزدق‏:‏

وما مِثْلُه في النّاس إلاّ مُمَلَّكاً *** أبُو أمِّه حَيّ أبُوهُ يقاربهْ

لأنَّه ضَمَ إلى خلل ترتيب الكلام أنَّه خَلل في أركان الجملة وما حفّ به من تعدّد الضّمائر المتشابهة وليس في الآية ممّا يخالف متعارف الاستعمال إلاّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، والخَطْبُ فيه سهل‏:‏ لأنّ المفعول ليس أجنبياً عن المضاف والمضاف إليه، وجاء الزمخشري في ذلك بالتّهويل، والضّجيج والعويل، كيف يفصَل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وزاد طنبور الإنكار نغمة‏.‏

فقال‏:‏ والذي حَمَله على ذلك أنّه رأى في بعض المصاحف‏:‏ ‏{‏شركائهم‏}‏ مكتوباً بالياء، وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة، إذا خالفت ما دُوّن عليه علم النّحو، لتوهّمه أنّ القراءات اختيارات وأقيسة من القُرّاء، وإنَّما هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة‏.‏

ومُدوّناتُ النّحو ما قصد بها إلاّ ضبط قواعد العربيّة الغالبة ليجري عليها النّاشئون في اللّغة العربيّة، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب، والقرّاءُ حجّة على النّحاة دون العكس، وقواعد النّحو لا تمنع إلاّ قياس المولَّدين على ما ورد نادراً في الكلام الفصيح، والنّدرة لا تنافي الفصاحة، وهل يظنّ بمثل ابن عامر أنّه يَقرأ القرآن متابعة لصورة حروف التهجّي في الكتابة‏.‏ ومثل هذا لا يروج على المبتدئين في علم العربيّة، وهلاّ كان رسم المصحف على ذلك الشّكل هادياً للزمخشري أن يتفطّن إلى سبب ذلك الرسم‏.‏ أمَّا ابن عطيّة فقال‏:‏ «هي قراءة ضعيفة في استعمال العَرب» يريد أنّ ذلك الفصل نادر، وهذا لا يُثبت ضعف القراءة لأنّ الندور لا ينَافي الفصاحة‏.‏

وبَعَّد ابنُ عطيّة هذه القراءة بعدم مناسبتها للتّعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ليردوهم‏}‏ وتبعيد ابن عطيّة لها تَوَهُّمٌ‏:‏ إذ لا منافاة بين أن يُزيّنوا لهم قتلَ أولادهم وبين التّعليل فإنّ التّعليل يستعمل في العاقبة مجازاً مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آلُ فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحَزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ومن العجيب قول الطّبري‏:‏ والقراءَة الّتي لا أستجيز غيرها بفتح الزاي ونصب‏:‏ ‏{‏القتل‏}‏ وخفض‏:‏ ‏{‏أولادهم‏}‏ ورفع‏:‏ ‏{‏شركائهم‏}‏‏.‏ وذلك على عادته في نصب نفسه حكماً في التّرجيح بين القراءات‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏ليردوهم‏}‏ لام العاقبة إن كان المراد بالشّركاء الأصنام، أي زيَّنوا لهم ذلك قصداً لنفعهم، فانكشف عن أضرارٍ جهلوها‏.‏ وإن كان المراد بالشّركاء الجنّ، أي الشّياطين فاللاّم للتّعليل‏:‏ لأنّ الإيقاع في الشرّ من طبيعة الوسواس لأنَّه يستحسن الشرّ وينسَاق إليه انسياق العقرب للَّسع من غير قصد إلى كون ما يدعونهم إليه مردِيا ومُلْبِساً فإنَّهم أولياؤهم لا يقصدون إضرارهم ولكنّهم لمّا دعوهم إلى أشياء هي في نفس الأمر مضارّ كان تزيينهم مُعلّلاً بالإرداء والإلباس وإن لم يفقهوه بخلاف من دعا لسبب فتبيّن خلافه، والضّمير للشّركاء والتّعليل للتّزيين‏.‏

والإرْدَاء‏:‏ الإيقاع في الرّدى، والردَى‏:‏ الموت، ويستعمل في الضرّ الشّديد مجازاً أو استعارة وذلك المراد هنا‏.‏

ولَبَس عليه أوقعه في اللّبس، وهو الخلط والاشتباه، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَلبسوا الحقّ بالباطل‏}‏

في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 42‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وللبَسْنا عليهم ما يلبسون‏}‏ في هذه السّورة ‏[‏9‏]‏‏.‏ أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضّلال رشداً وأنّه مراد الله منهم، فهم يتقرّبون إلى الله وإلى الأصنام لتقرّبهم إلى الله، ولا يفرّقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه، ويخيّلون إليهم أنّ وأد البنات مصلحة‏.‏ ومن أقولهم‏:‏ دَفْن البناهْ من المَكْرمَاهْ ‏(‏البناه‏.‏ والمكرماه‏.‏ بالهاء ساكنة في آخرهما‏.‏ وأصلها تاء جمع المؤنث فغيّرت لتخفيف المثَل‏)‏ وهكذا شأن الشّبه والأدلّة الموهومة التي لا تستند إلى دليل‏.‏ فمعنى‏:‏ وليلبسوا عليهم دينهم‏}‏ أنَّهم يحدثون لهم ديناً مختلطاً من أصناف الباطل، كما يقال‏:‏ وسِّعْ الجبّة، أي اجعلها واسعة، وقيل‏:‏ المراد ليدخلوا عليهم اللّبس في الدّين الّذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه السّلام، أي الحنيفيّة، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحقّ‏.‏

والقول في معنى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفسرون‏}‏ كالقول في قوله آنفاً ‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ وضمير الرّفع في‏:‏ ‏{‏فعلوه‏}‏ يعود إلى المشركين، أي‏:‏ لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم، أو يعود إلى الشّركاء، أي‏:‏ لو شاء الله لصدّهم عن إغواء أتباعهم، وضمير النّصب يعود إلى القتل أو إلى التّزيين على التوزيع، على الوجهين في ضمير الرّفع‏.‏

والمراد‏:‏ ب ‏{‏ما يَفترون‏}‏ ما يفترونه على الله بنسبة أنّه أمرهم بما اقترفوه، وكان افتراؤهم اتِّباعاً لافتراء شركائهم، فسمّاه افتراء لأنَّهم تقلّدوه عن غير نظر ولا استدلال، فكأنَّهم شاركوا الّذين افتروه من الشّياطين، أو سدنة الأصنام، وقادة دين الشّرك، وقد كانوا يموّهون على النّاس أنّ هذا ممّا أمر الله به كما دلّ عليه قوله في الآية بعد هذه‏:‏ ‏{‏افتراء عليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ وقوله في آخر السّورة‏:‏ ‏{‏قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏ وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم، وتعيين مصارفه، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في مَعْنى زيّن لهم شركاؤُهم‏.‏

والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول‏:‏ وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا، وهذه مصرفها كذا، فالإشارة من مَحكِيّ قولهم حين يَشْرعون في بيان أحكام دينهم، كما يقول القَاسم‏:‏ هذا لفلان، وهذا للآخر‏.‏ وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف‏:‏

صنف محجّر على مالكه انتفاعه به، وإنَّما ينتفع به من يعّينه المالك‏.‏ والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره‏:‏ أنَّهم كانوا يعيّنون مِن أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئاً يحجّرون على أنفسهم الانتفاع به، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام، وخدمتها، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عُيِّنَت له ذلك، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عُيّنت له، يصرفها حيث يتعيّن‏.‏ ومن هذا الصّنف أشياء معيَّنة بالاسم، لها حكم منضبط مثل البَحِيرة‏:‏ فإنَّها لا تُنحر ولا تُؤكل إلاّ إذا ماتَت حتف أنفها، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء، وإذا كان لها دَرّ لا يشربه إلاّ سدنة الأصنام وضيوفهم، وكذلك السائبة يَنتفع بدَرّها أبناءُ السَّبيل والسَدنة، فإذا ماتت فأكْلُهَا كالبَحِيرة، وكذلك الحامي، كما تقدّم في سورة المائدة‏.‏

فمعنى ‏{‏لا يطعمها‏}‏ لا يأكل لحمها، أي يَحرم أكل لحمها‏.‏ ونون الجماعة في ‏{‏نشاء‏}‏ مراد بها القائلون، أي يقولون لا يطعمها إلاّ من نشاء، أي من نُعيِّن أن يطعمها، قال في «الكشاف»‏:‏ يعنون خدَم الأوثان والرّجال دون النّساء‏.‏

والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 22‏]‏ فسمّاه حرثاً في وقت جذاذ الثّمار‏.‏

والحِجْر‏:‏ اسم للمحجّر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لا يطعمها إلا من نشاء‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏ معترض بين ‏{‏لا يطعمها إلاّ من نشاء‏}‏ وبين‏:‏ ‏{‏وأنعام حرمت ظهورها‏}‏‏.‏ والباء في‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏ بمعنى ‏(‏عن‏)‏، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنَّهم لمّا قالوا‏:‏ ‏{‏لا يطعمها‏}‏ لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم‏.‏

وإنَّما أرادوا بالنَّفي نفي الإباحة، أي لا يحلّ أن يطعمها إلاّ من نشاء، فالمعنى‏:‏ اعتقدوها حراماً لغير من عيّنوه، حتّى أنفسهم، وما هي بحرام، فهذا موقع قوله‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏‏.‏ وتقدّم القول على الباء من قوله‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏ آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقالوا هذا لله بزعمهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏

والصّنف الثّاني‏:‏ أنعام حُرّمت ظهورها، أي حُرّم ركوبها، منها الحامي‏:‏ لا يَركبه أحد، وله ضابط متّبع كما تقدّم في سورة المائدة، ومنها أنعام يحرّمون ظهورها، بالنّذر، يقول أحدهم‏:‏ إذا فعلتْ النّاقةُ كذا من نسللٍ أو مواصلة بين عِدة من إناث، وإذا فعل الفحل كذا وكذا، حَرم ظهره‏.‏ وهذا أشار إليه أبو نواس في قوله مادحاً الأمين‏:‏

وإذا المَطيُّ بنا بلغّن محمداً *** فظهورهن على الرجال حرام

فقوله‏:‏ ‏{‏وأنعام حرمت ظهورها‏}‏ معطوف على‏:‏ ‏{‏أنعام وحرث حجر‏}‏ فهو كخبر عن اسم الإشارة‏.‏ وعُلم أنَّه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف الّتي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه‏.‏ والتّقدير‏:‏ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرّمت ظهورها وبُني فعل‏:‏ ‏{‏حرمت‏}‏ للمجهول‏:‏ لظهور الفاعل، أي حرّم الله ظهورها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏افتراء عليه‏}‏‏.‏

والصّنف الثّالث‏:‏ أنعام لا يذكرون اسم الله عليها، أي لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها، يزعمون أنّ ما أهدي للجنّ أو للأصنام يُذكر عليه اسم مَا قُرّب له، ويزعمون أنّ الله أمر بذلك لتكون خالصَة القربان لما عُيّنت له، فلأجل هذا الزعم قال تعالى‏:‏ ‏{‏افتراء عليه‏}‏ إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريمُ ذِكر اسمه على ما يقرّب لغيره لولا أنَّهم يزعمون أنّ ذلك من القربان الّذي يُرضي الله تعالى، لأنَّه لشركائه، كما كانوا يقولون‏:‏ «لَبَّيْك لا شريكْ لك، إلاّ شريكاً هُوَ لكْ، تَمْلِكُه ومَا مَلكْ»‏.‏

وعن جماعة من المفسّرين، منهم أبو وائل، الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنّة في بعض الأنعام أن لا يُحجّ عليها، فكانت تُركب في كلّ وجه إلاّ الحجّ، وأنَّها المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ لأنّ الحجّ لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الرّاحلة من تلبية وتكبير، فيكون‏:‏ ‏{‏لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ كناية عن منع الحجّ عليها، والظاهر أنّ هذه هي الحامي والبحيرة والسّائبة، لأنَّهم لمّا جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وأنعام حرمت ظهورها‏}‏ وهو عطف صنف على صنف، بقرينة استيفاء أوصاف المعطوف عليه، كما تقدّم في نظيره‏.‏

وانتصب‏:‏ ‏{‏افتراء عليه‏}‏ على المفعولية المطلقة ل ‏{‏قالوا‏}‏، أي قالوا ذلك قولَ افتراء، لأنّ الافتراء بعض أنواع القول، فصحّ أن ينتصب على المفعول المطلق المبين لنوع القول، والافتراء الكذب الّذي لا شبهة لقائله فيه وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏94‏)‏، وعند قوله‏:‏ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود ‏(‏103‏)‏‏.‏ وإنَّما كان قولهم افتراء‏:‏ لأنَّهم استندوا فيه لشيء ليس وارداً لهم من جانب الله، بل هو من ضلال كبرائهم‏.‏

وجملة‏:‏ سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏ استئناف بياني، لأنّ الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عمّا سيلقونه من جزاء افترائهم، فأجيب بأنّ الله سيجزيهم بما كانوا يفترون‏.‏ وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النّفوس كلّ مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم، والباء بمعنى ‏(‏عن‏)‏، أو للبدلية والعوض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏‏.‏ وأعيد فعل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ لاختلاف غرض المقول‏.‏

والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها، كما تقدّم، أو إلى الأنعام المذكورة قبل‏.‏ ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة‏:‏ إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن ميتة‏}‏ وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة‏:‏ يشربها الرّجال دون النّساء، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها، وروي عن ابن عَبّاس، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها‏.‏

والخالصة‏:‏ السّائغة، أي المباحة، أي لا شائبةَ حَرج فيها، أي في أكلها، ويقابله قوله‏:‏ ‏{‏ومحرم‏}‏‏.‏

وتأنيث ‏{‏خالصة‏}‏ لأنّ المراد بمَا الموصولة ‏{‏الأجِنَّة‏}‏ فروعي معنى ‏(‏ما‏)‏ وروعي لفظ ‏(‏ما‏)‏ في تذكير ‏{‏محرّم‏}‏‏.‏

والمحرّم‏:‏ الممنوع، أي ممنوع أكله، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء‏.‏

والأزواج جمع زوج، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏‏.‏

وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً، وأضافوهنّ إلى ضميرهم، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال‏:‏ امرأة فلان‏.‏ وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم‏:‏ مثللِ العقم، أو سوءِ المعاشرة مع الأزواج، والنّشوز، أو الفراق، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهليّة وتكاذيبهم، أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة، فلا تحلّ للنّساء، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة، لأجل الحيض ونحو ذلك، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النّساء دخول المساجد، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض، وقالت كبشة بنت معديكرب تعيّر قومها‏:‏

ولا تَشرَبُوا إلاّ فُضُولَ نسائكم *** إذا ارتَمَلَتْ أعقابُهن منَ الدّم

وقال جمهور المفسّرين‏:‏ أطلق الأزواج على النّساء مطلقاً، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتّقييد، فيشمل المرأة الأيّم ولا يشمل البناتتِ، وقال بعضهم‏:‏ أريد به البنات أي بمجاز الأوْل فلعلّهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التّزوّج، أو ما يتعيَّرون منه، أو نحو ذلك‏.‏

وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء‏}‏ أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج، أو للرّجال والنّساء، أو للرّجال والنّساء والبنات، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وإن يكن‏}‏ بالتحتيّة ونصب ‏{‏ميتة‏}‏‏.‏ وقرأ ابنُ كثير برفع ‏{‏ميتة‏}‏، على أنّ كان تامّة، وقد أجري ضمير‏:‏ ‏{‏يَكُن‏}‏ على التّذكير‏:‏ لأنّه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التّذكير لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره، وقد اجتمعا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث ‏{‏خالصة‏}‏، أي إن تكن الأجنّة، وقرأ ‏{‏ميتة‏}‏ بالنّصب، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، كما قلتُ في جملة‏:‏ ‏{‏سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ آنفاً‏.‏

والوصف‏:‏ ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما، وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عمّا يصفون‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏100‏)‏‏.‏ والوصف، هنا‏:‏ هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله‏.‏ وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي‏:‏ سيجْزيهم جزاءَ وصفهم‏.‏ ضمّن ‏{‏يجزيهم‏}‏ معنى يُعطيهم، أي جزاء وفاقاً له‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه حكيم عليم‏}‏ تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم‏.‏ وتؤذن ‏(‏إنّ‏)‏ بالربط والتّعليل، وتُغني غناء الفاء، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

تذييل جُعل فذلكة للكلام السّابق، المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحلّ له‏.‏

وتحقيق الفعل ب ‏{‏قد‏}‏ للتّنبيه على أنّ خسرانهم أمر ثابت، فيفيد التّحقيق التّعجيب منهم كيف عَمُوا عمَّا هم فيه من خسرانهم‏.‏ وعن سعيد بن جبير قال ابن عبّاس‏:‏ إذا سرّك أن تعلم جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثّلاثين ومائة من سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفاهاً بغير علم إلى وما كانوا مهتدين‏.‏ أي من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ وجعلها فوق والثّلاثين ومائة تقريباً، وهي في العدّ السادسة والثلاثون ومائة‏.‏

ووصف فعلهم بالخسران لأنّ حقيقة الخسران نقصان مال التّاجر، والتّاجر قاصد الرّبح وهو الزّيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه ‏(‏ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الّذين يعملون طلباً لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه، لأنَّهم اتّعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله‏)‏ ذلك أنّ هؤلاء الّذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلّص من أضرارٍ في الدّنيا مُحْتَمَللٍ لحَاقُها بهم من جراء بَناتهم، فوقعوا في أضرار محقّقة في الدّنيا وفي الآخرة، فإنّ النّسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهمّاتهم، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتزّ، وعلى العالَم كلّه بكثرة من يعمره وبما ينتفع به النّاس من مواهب النّسل وصنائعه، ونعمة على النّسل نفسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها‏.‏ ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التّناسل، حفظاً للنّوع، وتعميراً للعالم، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره‏.‏ فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضراراً حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم‏:‏ سفهاً، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل‏.‏ وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سفهاً‏}‏ منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل‏:‏ أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من ‏{‏الذين قتلوا‏}‏، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ للملابسة، وهي في موضع الحال إمَّا منْ ‏{‏سفهاً‏}‏ فتكون حالاً مؤكّدة، إذ السفه لا يكون إلاّ بغير علم، وإمَّا من فاعل ‏{‏قتلوا‏}‏، فإنَّهم لمّا فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدّروا حصوله لهم من الضرّ، إذ قد يحصل خلاف ما قدّروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة‏.‏

والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنّه سفَه‏.‏ التّنبيه على أنَّهم فعلوا ذلك ظنّا منهم أنَّهم أصابوا فيما فعلوا، وأنَّهم علموا كيف يَرأبُون ما في العالم من المفاسد، وينظمون حياتهم أحسن نظام، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم، وجاهلون بأنَّهم يجهلون ‏{‏الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وتقدّم الكلام على الوأد آنفاً، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قَتَلوا أولادهم‏}‏ بتخفيف التّاء وقرأه ابن عامر بتشديد التّاء لأنّه قتْل بشدّة، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى، لأنّ تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنَّه قتل فظيع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وحرموا ما رزقهم الله‏}‏ نَعَى عليهم خسرانهم في أن حرّموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله، فحُرِموا الانتفاع به، وحَرَموا النّاس الانتفاع به، وهذا شامل لجميع المشركين، بخلاف الّذين قتلوا أولادهم‏.‏ والموصول الّذي يراد به الجماعة يصحّ في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصّلة موزّعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النّبيين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من النّاس فبشّرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏افتراء‏}‏ على المفعول المطلق ل ‏{‏حرّموا‏}‏‏:‏ لبيان نوع التّحريم بأنَّهم نسبوه لله كذباً‏.‏

وجملة ‏{‏قد ضلوا‏}‏ استئناف ابتدائي لزيادة النّداء على تحقّق ضلالهم‏.‏

والضّلال‏:‏ خطأ الطّريق الموصِّل إلى المقصود، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية، والتّقرب إلى الله وإلى شركائهم، فوقعوا في المفاسد العظيمة، وأبعدهم الله بذنوبهم، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقاً آخر‏.‏

وعَطْف ‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏ على ‏{‏قد ضلوا‏}‏ لقصد التّأكيد لمضمون جملة ‏{‏ضلوا‏}‏ لأنّ مضمون هذه الجملة ينفي ضدّ الجملة الأولى فتؤول إلى تقرير معناها‏.‏

والعرب إذا أكّدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظراً لمآل مُفاد الجملتين، وأنَّهما باعتباره بمعنى واحد، وذلك حقّ التّأكيد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أموات غيرُ أحياء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ وقول الأعشى‏:‏

إمَّا تَرَيْنَا حُفَاة لا نِعَالَ لنا ***

وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنَّه اعتداد بأنّ مفهوم الجملتين مختلف، ولا اعتداد بمآلهما كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضلّ فرعون قومَه وما هَدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد ضللتُ إذنْ وما أنا من المهتدين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏ وقول المتنبّي‏:‏

والبَيْنُ جارَ على ضُعفي وما عَدَلا ***

وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد، بالعطف، أنَّهما خبران عن مساويهم‏.‏

و ‏(‏كان‏)‏ هنا في حكم الزائدة‏:‏ لأنَّها زائدة معنى، وإن كانت عاملة، والمراد‏:‏ وما هم بمهتدين، فزيادة ‏(‏كان‏)‏ هنا لتحقيق النّفي مثلَ موقعها مع لام الجحود، وليس المراد أنَّهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويُحرّموا ما رزقهم الله، لأنّ هذا لا يتعلّق به غرض بليغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه‏}‏‏.‏

الواو في‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ‏}‏ للعطف، فيكون عطف هذه الجملة على جملة ‏{‏وحرّموا ما رزقهم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏ تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوععِ عن الغي، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع، وأنَّه المنفرد بالخلق، فكيف يشركون به غيره‏.‏ ولذلك ذيّلها بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وعطف عليها قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجنّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ الآيات‏.‏

والمقصود من هذه‏:‏ الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله‏:‏ ‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر‏}‏‏.‏

والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين، لأنَّه اعتبار وامتنان، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين‏.‏

وتعريف المسند يفيد الاختصاص، أي هو الّذي أنشأ لا غيره، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه‏.‏

والإنشاءُ‏:‏ الإيجاد والخلق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 35‏]‏ أي نساء الجنّة‏.‏

والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه، وقد تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏كمثل جنّة برُبْوة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏265‏)‏‏.‏ وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها، كقوله‏:‏ ‏{‏أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

والمعروشات‏:‏ المرفوعات‏.‏ يقال‏:‏ عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض‏.‏ وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ‏:‏ العَريشُ‏.‏ ومنه ما يذكر في السيرة‏:‏ العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر‏.‏ ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي، وإنَّما هي معروش فيها، والمعروش أشجارها‏.‏

وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏معروشات وغير معروشات‏}‏ صفة‏:‏ ل ‏{‏جنّات‏}‏ قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة، كقوله في شأن الأنعام ‏{‏ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و ‏{‏مختلفا أكلهُ‏}‏ حال من الزّرع، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ أي وإليه، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها، فهي جديرة بأن تكون مقارنة، كما هنا‏.‏

‏(‏والأُكْل‏)‏ بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير، وبضمّهما قرأه الباقون، هو الشّيء الّذي يؤكل، أي مختلفا مَا يؤكل منه‏.‏

وعُطف‏:‏ ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ على‏:‏ ‏{‏جنّاتتٍ‏.‏‏.‏‏.‏ والنّخلَ والزّرعَ‏}‏‏.‏ والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان‏.‏ وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السّماء ماء‏}‏ الآية في هذه السّورة ‏(‏99‏)‏‏.‏

إلاّ أنَّه قال هناك‏:‏ ‏{‏مُشْتَبِها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ وقال هنا‏:‏ ‏{‏متشابها‏}‏ وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله‏:‏ ‏{‏وغير متشابه‏}‏ في الآيتين‏.‏

غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم‏.‏

والثَمَر‏:‏ بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرئ بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها‏.‏

والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله، فالقرينة ظاهرة‏.‏ والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف، أي‏:‏ حين إثماره، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ أي‏:‏ كلوا منه قبل أداء حقّه‏.‏ وهذه رخصة ومنّة، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وإفراد الضّميرين في قوله‏:‏ ‏{‏من ثمره إذا أثمر‏}‏ على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم‏.‏ وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً‏.‏

وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة، أي الحقّ الكائن فيه‏.‏

وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه، وهو‏:‏ حقّ الفقير، والقربى، والضّعفاء، والجيرة‏.‏ فقد كان العرب، إذا جَذّوا ثمارهم، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة‏.‏ وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏ فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 24، 25‏]‏، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها‏.‏ ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها‏.‏

والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال‏.‏ قال سيبويه «جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد، وربَّما دخلتتِ اللّغة في بعض هذا ‏(‏أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء‏)‏ فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية»‏.‏

وقرأه نافع، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بكسر الحاء‏.‏ وقرأ أبُو عمرو، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب بفتح الحاء‏.‏

وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة، أو بعده بقليل، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم، وجحدوا حقوقهم، واستباحوا أموالهم، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم‏.‏ وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن، فالزّكاة قرينة الصّلاة‏.‏ وقول بعض المفسّرين‏:‏ الزّكاة فرضت بالمدينة، يحمل على ضبط مقاديرها بآية ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ وهي مدنيَّة، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً، وإنَّما ضبطت الزّكاة‏.‏ ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه، بالمدينة، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وجمع من التّابعين كثير‏.‏ ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير، وحَملها ابنُ عمر، وابنُ الحنفية، وعليّ بن الحسين، وعطاء، وحمَّاد، وابن جبير، ومجاهد، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب، وحملها السُدّي، والحسن، وعطيّة العوفي، والنّخعي، وسعيد بن جبير، في رواية عنه، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة‏.‏

وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد‏:‏ لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة، والحصاد مبدأ تلك المظنة، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد‏.‏ ثمّ إنّ حصاد الثّمار، وهو جذاذها، هو قطعها لادّخارها، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد‏.‏ ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون، من زيته أو من حبّه، بخلاف الرمّان والفواكه‏.‏

وعلى القول المختار‏:‏ فهذه الآية غير منسوخة، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ عطف على ‏{‏كلوا‏}‏، أي‏:‏ كلوا غيرَ مسرفين‏.‏ والإسراف والسّرف‏:‏ تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً في سورة النّساء ‏(‏6‏)‏‏.‏ وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف، وهو نهي إرشاد وإصلاح، أي‏:‏ لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ‏.‏

وقيل عطف على ‏{‏وآتوا حقه‏}‏ أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير‏:‏ تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المسرفين‏}‏ استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف‏.‏ وأكّد ب ‏{‏إنّ‏}‏ لزيادة تقرير الحكم، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبّة مختلف المراتب، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود‏.‏

ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله‏:‏ ‏{‏إنَّه لا يحبّ المسرفين‏}‏ تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه، ليعينوه في إسراف حرام، حتّى قال بعضهم‏:‏ إنَّها منسوخة، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه‏.‏

فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات، فيكون ذلك دأبه، فربَّما ضاق عليه ماله، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة‏.‏ وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة‏.‏ فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة‏.‏ ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً‏:‏ «لاَ خَيْرَ في السَّرف، ولا سرف في الخير» وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ‏(‏31‏)‏‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

عُطف‏:‏ ‏{‏حمولة‏}‏ على‏:‏ ‏{‏جنات معروشات‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ أي‏:‏ وأنشأ من الأنعام حمولة وفَرْشاً، فينسحب عليه القصر الّذي في المعطوف عليه، أي هو الّذي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً لا آلهة المشركين، فكان المشركون ظالمين في جعلهم للأصنام حقّاً في الأنعام‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الأنعام‏}‏ ابتدائيّة لأنّ الابتداء معنى يصلح للحمولة وللفرش لأنَّه أوسع معاني ‏(‏مِن‏)‏‏.‏ والمجرور‏:‏ إمَّا متعلّق ب ‏{‏أنشأ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏، وإمَّا حال من ‏{‏حمولة‏}‏ أصلها صفة فلمّا قدمت تحوّلت‏.‏

وأيًّا ما كان فتقديم المجرور على المفعول الّذي هو أولى بالتّقديم في ترتيب المتعلّقات، أو تقديمُ الصّفة على الموصوف، لقصد الاهتمام بأمر الأنعام، لأنَّها المقصود الأصلي من سياق الكلام، وهو إبطال تحريم بعضها، وإبطالُ جعل نصيب منها للأصنام، وأمَّا الحمل والفَرْش فذلك امتنان أُدمج في المقصود توفيراً للأغراض، ولأنّ للامتنان بذلك أثراً واضحاً في إبطال تحريم بعضها الّذي هو تضييق في المنّة ونبذ للنّعمة، وليتمّ الإيجاز إذ يغني عن أن يقول‏:‏ وأنشأ لكم الأنعام وأنشأ منها حمولة وفرشاً، كما سيأتي‏.‏

والأنعام‏:‏ الإبل، والبقر، والشّاء، والمعز، وقد تقدّم في صدر سورة العقود، والحمولة بفتح الحاء ما يحمل عليه المتاع أو النّاس يقال‏:‏ حمل المتاع وحمل فلاناً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا ما أتَوْك لتحملهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏ ويلزمها التّأنيث، والإفراد مثل ‏(‏صَرورة‏)‏ للّذي لم يحجّ يقال‏:‏ امرأة صَرورة ورجل صّرورة‏.‏

والفرش‏:‏ اختلف في تفسيره في هذه الآية‏.‏ فقيل‏:‏ الفرش ما لا يُطيق الحَمل من الإبل أي فهو يركب كما يُفرش الفَرش، وهذا قول الراغب‏.‏ وقيل‏:‏ الفَرش الصّغار من الإبل أو من الأنعام كلّها، لأنَّها قريبة من الأرض فهي كالفرش، وقيل‏:‏ الفرش ما يذبح لأنّه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده، أي فهو الضان والمعز والبقر لأنَّها تذبح‏.‏ وفي «اللّسان» عن أبي إسحاق‏:‏ أجمع أهل اللّغة على أنّ الفرش هو صغار الإبل‏.‏

زاد في «الكشاف»‏:‏ «أو الفَرْش‏:‏ ما يُنْسَج من وبره وصوفه وشَعْره الفرْش» يريد أنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دِفْءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5 7‏]‏ الآية، ولأنَّهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها‏.‏

ولفظ ‏{‏فرشا‏}‏ صالح لهذه المعاني كلّها، ومحامله كلّها مناسبة للمقام، فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأنّ لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فالحمولة الإبل خاصّة، والفَرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصّالحة لكلّ نوع مع ضميمته إلى كلمة ‏(‏من‏)‏ الصالحة للابتداء‏.‏

فالمعنى‏:‏ وأنشأ من الأنعام ما تحملون عليه وتركبونه، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصّغيرة، وما تأكلونه وهو البقر والغنم، وما هو فرش لكم وهو ما يُجزّ منها، وجلودها‏.‏

وقد علم السّامع أنّ الله لمّا أنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام فقد أنشأ الأنعام أيضاً، وأول ما يتبادر للنّاس حين ذكر الأنعام أن يتذكّروا أنَّهم يأكلون منها، فحصل إيجاز في الكلام ولذلك عقّب بقوله‏:‏ ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ معترضة مثل آية‏:‏ ‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏ ومناسبة الأمر بالأكل بعد ذكر الأنعام‏:‏ أنَّه لمّا كان قوله‏:‏ ‏{‏وفرشا‏}‏ شيئاً ملائماً للذّبح، كما تقدّم، عقّب بالإذن بأكل ما يصلح للأكل منها‏.‏ واقتصر على الأمر بالأكل لأنَّه المقصود من السّياق إبطالاً لتحريم ما حرّموه على أنفسهم، وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ فالأمر بالأكل هنا مستعمل في النَّهي عن ضدّه وهو عدم الأكل من بعضها، أي لا تحرّموا ما أحلّ لكم منها اتّباعاً لتغرير الشّيطان بالسوسوسة لزعماء المشركين الّذين سنّوا لهم تلك السّنن الباطلة، وليس المراد بالأمر الإباحة فقط‏.‏

وعدل عن الضّمير بأن يقول‏:‏ كلوا مِنها‏:‏ إلى الإتيان بالموصول، ‏{‏مما رزقكم الله‏}‏ لما في صلة الموصول من الإيماء إلى تضليل الّذين حرّموا على أنفسهم، أو على بعضهم، الأكل من بعضها، فعطّلوا على أنفسهم بعضاً ممّا رزقهم الله‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ النّهي عن شؤون الشّرك فإنّ أول خطوات الشّيطان في هذا الغرض هي تسويلهُ لهم تحريم بعض ما رزقهم الله على أنفسهم‏.‏ وخطوات الشّيطان تمثيل، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏168‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ إنه لكم عدوٌ مبين‏}‏ تعليل للنّهي، وموقع ‏(‏إنّ‏)‏ فيه يغني عن فاء التّفريع كما تقدّم غير مرّة، وقد تقدّم بيانه في آية البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ حال من ‏{‏من الأنعام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏‏.‏ ذكر توطئة لتقسيم الأنعام إلى أربعة أصناف الّذي هو توطئة للردّ على المشركين لقوله‏:‏ ‏{‏قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين إلى قوله أم كنتم شهداء أي أنشأ من الأنعام حمولة إلى آخره حالة كونها ثمانية أزواج‏.‏

والأزواج جمع زوج، والزوج اسم لذات منضمَّة إلى غيرها على وجه الملازمة، فالزّوج ثان لواحد، وكلّ من ذيْنِك الاثنين يقال له‏:‏ زوج، باعتبار أنّه مضموم، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجَنَّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏، ويطلق الزوج غالباً على الذّكر والأنثى من بني آدم المتلازمين بعقدة نكاح، وتوسّع في هذا الإطلاق فأطلق بالاستعارة على الذّكر والأنثى من الحيوان الّذي يتقارن ذكره وأنثاه مثل حمار الوحش وأتانه، وذكر الحمام وأنثاه، لشبهها بالزوجين من الإنسان‏.‏ ويطلق الزّوج على الصنف من نوع كقوله تعالى‏:‏ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين في سورة الرّعد ‏(‏3‏)‏‏.‏ وكلا الإطلاقين الأخيرين صالح للإرادة هنا لأنّ الإبل والبقر والضأن والمعز أصناف للأنعام، ولأنّ كلّ ذلك منه ذكر وأنثى‏.‏ إذ المعنى أنّ الله خلق من الأنعام ذكرها وأنثاها، فالأزواج هنا أزواج الأصناف، وليس المراد زوْجاً بعينه، إذ لا تعرف بأعيانها، فثمانية أزواج هي أربعة ذكور من أربعة أصناف وأربعُ إناث كذلك‏.‏

وقوله‏:‏ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين‏}‏ أُبدل ‏{‏اثنين‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏اثنين‏}‏‏:‏ بدلَ تفصيل، والمراد‏:‏ اثنين منها أي من الأزواج، أي ذَكَرٌ وأنثى كلّ واحد منهما زوج للآخر، وفائدة هذا التّفصيل التوصّل لذكر أقسام الذّكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله‏:‏ ‏{‏قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين‏}‏ الآية‏.‏

وسُلك في التّفصيل طريق التّوزيع تمييزاً للأنواع المتقاربة، فإنّ الضأن والمعز متقاربان، وكلاهما يذبح، والإبلَ والبقرَ متقاربة، والإبلُ تنحر، والبقر تذبح وتُنحر أيضاً‏.‏ ومن البقر صنف له سنام فهو أشبه بالإبل ويوجد في بلاد فارس ودخل بلاد العرب وهو الجاموس، والبقرُ العربي لا سنام له وثَورها يسمّى الفريش‏.‏

ولمّا كانوا قد حرّموا في الجاهليّة بعض الغنم، ومنها ما يسمّى بالوصيلة كما تقدّم، وبعض الإبل كالبَحيرة والوصيلة أيضاً، ولم يحرّموا بعض المعز ولا شيئاً من البقر، ناسب أن يؤتى بهذا التّقسيم قبل الاستدلال تمهيداً لتحكّمهم إذْ حرّموا بعض أفراد من أنواع، ولم يحرّموا بعضاً من أنواع أخرى، وأسباب التّحريم المزعومة تتأتى في كلّ نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنَّه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏.‏

وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكّم‏.‏

والضأن بالهمز اسم جمع للغَنم لا واحد له من لفظه، ومفرد الضأن شاة وجمعها شاءٌ‏.‏

وقيل هو جمع ضَائن‏.‏ والضأن نوع من الأنعام ذواتتِ الظلف له صوف‏.‏ والمعز اسم جمع مفرده ماعِز، وهو نوع من الأنعام شبيه بالضأن من ذوات الظلف له شعر مستطيل، ويقال‏:‏ مَعْز بسكون العين ومَعز بفتح العين وبالأول قرأ نافع‏.‏ وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف‏.‏ وقرأ بالثّاني الباقون‏.‏

وبعد أن تمّ ذكر المنّة والتّمهيد للحجّة، غيرّ أسلوب الكلام، فابتدئ بخطاب الرّسول عليه الصّلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عيّنوه من النّاس بقوله‏:‏ ‏{‏قل ءآلذكرين حرم‏}‏ الآيات‏.‏ فهذا الكلام ردّ على المشركين، لإبطال ما شرعوه بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏نبئوني بعلم إن كنتم صادقين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا‏}‏ الآية‏.‏ فقوله‏:‏ قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين إلى آخرها في الموضعين، اعتراض بعد قوله‏:‏ ‏{‏ومن المعز اثنين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن البقر اثنين‏}‏‏.‏ وضمير‏:‏ ‏{‏حرّم‏}‏ عائد إلى اسم الله في قوله‏:‏ ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏، أو في قوله‏:‏ ‏{‏وحرموا ما رزقهم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏ الآية‏.‏ وفي تكرير الاستفهام مرّتين تعريض بالتّخطئة، فالتّوبيخ والتّقريع الّذي يعقبه التّصريح به في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً‏}‏ الآية‏.‏ فلا تردّد في أنّ المقصود من قوله‏:‏ ‏{‏قل ءآلذكرين حرم‏}‏ في الموضعين إبطال تحريم ما حرّم المشركون أكله، ونفي نسبة ذلك التّحريم إلى الله تعالى‏.‏ وإنَّما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام‏.‏ وهو من المعضلات‏.‏

فقال الفخر‏:‏ «أطبق المفسّرون على أنّ تفسير هذه الآية أنّ المشركين كانوا يحرّمون بعض الأنعام فاحتجّ الله على إبطال قولهم بأنْ ذكَرَ الضأن والمعز والإبل والبقر‏.‏ وذكر من كلّ واحد من هذه الأربعة زوجين ذكراً وأنثى، ثمّ قال‏:‏ إن كان حُرّم منها الذّكر وجب أن يكون كلّ ذكورها حراماً، وإن كان حُرم الأنثى وجب أن يكون كلّ إناثها حراماً، وأنَّه إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلّها»‏.‏ حاصل المعنى نفي أن يكون الله حرّم شيئاً ممّا زعموا تحريمه إياه بطريق السبّر والتّقسيم وهو من طريق الجدل‏.‏

قلت‏:‏ هذا ما عزاه الطّبري إلى قتادة، ومجاهد، والسدّي، وهذا لا يستقيم لأنّ السبر غير تامّ إذ لا ينحصر سبب التّحريم في النّوعيّة بل الأكثر أنّ سببه بعض أوصاف الممنوع وأحواله‏.‏ 5

وقال البغوي‏:‏ قالوا‏:‏ ‏{‏هذه أنعَام وحرث حجر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ وحرّموا البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي، فلمّا قام الإسلام جَادَلوا النّبيء صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالكَ بن عوف الجُشَمي قالوا‏:‏ يا محمّد بلغَنا أنَّك تحرّم أشياء ممّا كان آباؤنا يفعلونه‏.‏

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّكم قد حرّمتم أصنافاً من النّعم على غير أصل، وإنَّما خلق الله هذه الأزواج الثّمانية للأكل والانتفاع بها، فمِن أيْن جاء هذا التّحريم أمِن قِبلَ الذّكر أم من قِبَل الأنثى‏.‏ فسكت مالك بن عوف وتحيَّر اه ‏(‏أي وذلك قبل أن يُسلم مالك بن عوف‏)‏ ولم يعزه البغوي إلى قائل وهو قريب ممّا قاله قتادة والسّدي ومجاهد فتبيّن أنّ الحجاج كلّه في تحريم أكل بعض هذه الأنواع من الأنعام، وفي عدم التّفرقة بين ما حرّموا أكله وما لم يحرّموه مع تماثل النّوع أو الصنف‏.‏

والّذي يؤخذ من كلام أئمَّة العربيّة في نظم الاستدلال على المشركين أنّ الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين حرم‏}‏ في الموضعين‏.‏ استفهام إنكاري، قال في «الكشاف» الهمزة في ‏{‏ءآلذكرين‏}‏ للإنكار‏.‏ والمعنى‏:‏ إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسي الغنم شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها وما تحمل إناثها وكذلك في جنسي الإبل والبقر، وبيّنه صاحب «المفتاح» في باب الطلب بقوله‏:‏ وإن أردتَ به ‏(‏أي بالاستفهام‏)‏ الإنكا فانسجه على منوال النّفي فَقُل ‏(‏في إنكار نفس الضرب‏)‏ أضربت زيداً، وقل ‏(‏في إنكار أن يكون للمخاطب مضروبٌ‏)‏ أزيداً ضربت أم عمراً، فإنَّك إذا أنكرت من يُردّد الضّرب بينهما ‏(‏أي بزعمه‏)‏ تولّد منه ‏(‏أي من الإنكار عليه‏)‏ إنكار الضرب على وجه بُرهاني ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين حرم أم الأنثيين‏}‏‏.‏ قال شارحه القطب الشّيرازي‏:‏ لاستلزام انتفاء محلّ التّحريم انتفاءَ التّحريم لأنَّه عرض يمتنع وجوده، أي التّحريم، دون محلّ يقوم به فإذا انتفى ‏(‏أي محلّه‏)‏ انتفى هو أي التّحريم ا ه‏.‏

أقول وجه الاستدلال‏:‏ أنّ الله لو حرّم أكل بعض الذّكور من أحد النّوعين لحرّم البعضَ الآخر، ولو حرّم أكل بعض الإناث لحرّم البعض الآخر‏.‏ لأنّ شأن أحكام الله أن تكون مطّردة في الأشياء المتّحدة بالنّوع والصّفة، ولو حَرّم بعض ما في بطون الأنعام على النّساء لحرّم ذلك على الرّجال، وإذْ لم يحرّم بعضها على بعض مَع تماثل الأنواع والأحوال‏.‏ أنتجَ أنَّه لم يحرّم البعض المزعوم تحريمُه، لأنّ أحكام الله منوطة بالحكمة، فدلّ على أنّ ما حرّموه إنَّما حرّموه من تلقاء أنفسهم تحكّماً واعتباطاً، وكان تحريمهم ما حرّموه افتراءً على الله‏.‏ ونهضت الحجّة عليهم، الملجئةُ لهم، كما أشار إليه كلام النّبيء صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجُشمي المذكورُ آنفاً، ولذلك سَجَّل عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏نبئوني بعلم إن كنتم صادقين‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين حرم‏}‏ أي لو حرّم الله ءآلذكرين لسوّى في تحريمهما بين الرّجال والنّساء‏.‏ وكذلك القول في الأنثيين، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين حرم‏}‏ في الموضعين مُستعمل في التّقرير والإنكار بقرينة قوله قبله‏:‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم إنَّه حكيم عليم‏}‏

‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتَّبعوا خطوات الشّيطان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏‏.‏ ومعلوم أنّ استعمال الاستفهام في غير معنى طلب الفهم هو إما مجاز أو كناية‏.‏

ولذلك تعيَّن أن تكون ‏{‏أم‏}‏ منقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏ ومعناها الإضراب الانتقالي تعديداً لهم ويُقَدّر بعدها استفهام‏.‏ فالمفرد بعد ‏{‏أم‏}‏ مفعول لفعل محذوف، والتّقدير‏:‏ أم أحرّم الأنثيين‏.‏ وكذلك التّقدير في قوله‏:‏ ‏{‏أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين‏}‏ وكذلك التّقدير في نظيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الضأن اثنين ومن المعز اثنين‏}‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين‏}‏ من مسلك السير والتقسيم المذكور في مسالك العلة من علم أصول الفقه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏نبئوني بعلم إن كنتم صادقين‏}‏ بدل اشتمال من جملة؛ ‏{‏ءآلذكرين حرم أم الأنثيين‏}‏ لأنّ إنكار أن يكون الله حرّم شيئاً من ذكور وإناث ذينك الصنفين يقتضي تكذيبهم في زعمهم أنّ الله حرّم ما ذكروه فيلزم منه طلبُ الدّليل على دعواهم‏.‏ فموقع جملة ‏{‏ءآلذكرين‏}‏ بمنزلة الاستفسار في علم آداب البحث‏.‏ وموقع جملة‏:‏ ‏{‏نبئوني بعلم إم كنتم صادقين‏}‏ بمنزلة المنع‏.‏ وهذا تهكّم لأنَّه لا يَطلب تلقّي علم منهم‏.‏ وهذا التَّهكّم تابع لصورة الاستفهام وفرعٌ عنها‏.‏ وهو هنا تجريد للمجاز أو للمعنى الملزوم المنتقل منه في الكناية‏.‏ وتثنية ءآلذكرين والأنثيين‏:‏ باعتبار ذكور وإناث النّوعين‏.‏

وتعدية فعل‏:‏ ‏{‏حَرّم‏}‏ إلى ‏{‏الذّكرين‏}‏ و‏{‏الأنثيين‏}‏ وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، على تقدير مضاف معلوم من السّياق، أي‏:‏ حرّم أكل ءآلذكرين أم الأنثيين إلى آخره‏.‏

والتّعريف في قوله‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين‏}‏ تعريف الجنس كما في «الكشاف»‏.‏

والباء في ‏{‏بعلم‏}‏‏:‏ يحتمل أن تكون لتعدية فعل الإنباء، فالعلم بمعنى المعلوم‏.‏ ويحتمل أن تكون للملابسة، أي نبّئوني إنباء ملابساً للعلم، فالعلم ما قابل الجهل أي إنباء عالم‏.‏ ولمَّا كانوا عاجزين عن الإنباء دلّ ذلك على أنَّهم حرّموا ما حرّموه بجهالة وسوء عقل لا بعلم، وشأن من يتصدّى للتحريم والتّحليل أن يكون ذا علم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي في قولكم‏:‏ إنّ الله حرّم ما ذكرتم أنَّه محرّم، لأنَّهم لو كانوا صادقين في تحريم ذلك لاستطاعوا بيان ما حرّمه الله، ولأبدوا حكمة تحريم ما حرّموه ونسبوا تحريمه إلى الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الإبل اثنين‏}‏ إلى قوله ‏{‏أرحام الأنثيين‏}‏ عطف على‏:‏ ‏{‏ومن المعز اثنين‏}‏ لأنَّه من تمام تفصيل عدد ثمانية أزواج، والقول فيه كالقول في سابقه، والمقصود إبطال تحريم البحيرة والسّائبة والحامي وما في بطون البحائر والسّوائب‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء‏}‏ منقطعة للإضراب الانتقالي‏.‏ فتؤذن باستفهام مقدّر بعدها حيثما وقعت‏.‏ وهو إنكاري تقريري أيضاً بقربنة السّياق‏.‏

والشّهداء‏:‏ الحاضرون جمعُ شَهيد وهو الحاضر، أي شُهداء حين وصّاكم الله، ف ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏شهداء‏}‏ مضاف إلى جملة‏:‏ ‏{‏وصاكم‏}‏‏.‏

والإيصاء‏:‏ الأمر بشيء يُفعل في غيبة الآمر فيؤكَّد على المأمور بفعله لأنّ شأن الغائب التّأكيد‏.‏

وأطلق الإيصاء على ما أمر الله به لأنّ النّاس لم يشاهدوا الله حين فعلهم ما يأمرهم به، فكانَ أمر الله مؤكَّداً فعبّر عنه بالإيصاء تنبيهاً لهم على الاحتراز من التّفويت في أوامر الله، ولذلك أطلق على أمر الله الإيصاءُ في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏بهذا‏}‏ إلى التحريم المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏حرم‏}‏ وذلك لأنّ في إنكار مجموع التّحريم تضمُّنا لإبطال تحريم معيَّن ادّعوه‏.‏ وهم يعرفونه‏.‏ فلذلك صحّت الإشارة إلى التّحريم على الإجمال، وخصّ بالإنكار حالة المشاهدة، تهكّماً بهم، لأنَّهم كانوا يكذّبون الرّسول صلى الله عليه وسلم فحالهم حَال من يضع نفسه موضع من يحضر حضرة الله تعالى لسماع أوامره‏.‏ أو لأنّ ذلك لمّا لم يكن من شرع إبراهيم ولا إسماعيل عليهم السّلام، ولم يأت به رسول من الله، ولم يدّعوه، فلم يبق إلاّ أنّ يدّعوا أنّ الله خاطبهم به مباشرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً‏}‏ مترتّب على الإنكار في قوله‏:‏ ‏{‏ءآلذكرين حرم أم الأنثيين‏}‏ إلى قوله ‏{‏إذ وصاكم الله بهذا‏}‏، أي فيترتّب على ذلك الإبطال والإنكار أن يتوجّه سؤال من المتكلّم مشوبٌ بإنكار‏.‏ عمّن اتّصف بزيادة ظلم الظّالمين الّذين كذبوا على الله ليضلّوا النّاس، أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، فإذا ثبت أنّ هؤلاء المخاطبين قد افتروا على الله كذباً، ثبت أنَّهم من الفريق الّذي هو أظلم الظالمين‏.‏

والمشركون إمّا أن يكونوا ممّن وضع الشّرك وهم كبراء المشركين‏:‏ مثل عَمرو بن لُحي، واضععِ عبادة الأصنام، وأوللِ من جعل البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي، ومن جاء بعده من طواغيت أهل الشّرك الّذين سنّوا لهم جعل شيء من أموالهم لبيوت الأصنام وسدنتها، فهؤلاء مُفترون، وإمَّا أن يكونوا ممّن اتَّبع أولئك بعزم وتصلّب وشاركوهم فهم اتَّبعوا أناساً ليسوا بأهل لأنّ يُبلِّغوا عن الله تعالى، وكان حقّهم أن يتوخَّوا من يتَّبعون ومن يظنّون أنَّه مبلّغ عن الله وهم الرّسل، فمن ضلالهم أنَّهم لمّا جاءهم الرّسول الحقّ عليه الصلاة والسلام كذّبوه، وقد صدّقوا الكَذَبَة وأيَّدوهم ونصروهم‏.‏

ويستفاد من الآية أنّ من الظلم أن يُقدِم أحد على الإفتاء في الدّين ما لم يكن قد غلب على ظنّه أنَّه يفتي بالصّواب الّذي يُرضي الله، وذلك إنْ كان مجتهداً فبالاستناد إلى الدّليل الّذي يغلب على ظنّه مصادفته لمراد الله تعالى، وإن كان مقلّداً فبالاستناد إلى ما يغلب على ظنّه أنَّه مذهب إمامه الّذي قلَّده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ تقدّم القول في نظيره آنفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ يجوز أن يكون تعليلاً لكونهم من أظلم النّاس، لأنّ معنى الزّيادة في الظلم لا يتحقّق إلاّ إذا كان ظلمهم لا إقلاع عنه، لأنّ الضّلال يزداد رسوخاً في النّفس بتكررّ أحواله ومظاهره، لأنَّهم لمّا تعمّدوا الإضلال أو اتَّبعوا متعمّديه عن تصلّب، فهم بمعزل عن تطلب الهدى وإعادة النّظر في حال أنفسهم، وذلك يغريهم بالازدياد والتملّي من تلك الأحوال، حتّى تصير فيهم ملكة وسجيّة، فيتعذّر إقلاعهم عنها، فعلى هذا تكون ‏{‏إنّ‏}‏ مفيدة معنى التّعليل‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة تهديداً ووعيداً لهم، إن لم يقلعوا عمّا هم فيه، بأنّ الله يحرمهم التّوفيق ويذرهم في غيّهم وعمههم، فالله هَدى كثيراً من المشركين هم الّذين لم يكونوا بهذه المثابة في الشّرك، أي لم يكونوا قادة ولا متصلّبين في شركهم، والّذين كانوا بهذه المثابة هم الّذين حرمهم الله الهدى، مثل صناديد قريش أصحاب القليب يوم بدر، فأمّا الّذين اتَّبعوا الإسلام بالقتال مثل معظم أهل مكّة يوم الفتح، وكذلك هوازن ومَن بعدها، فهؤلاء أسلموا مذعنين ثمّ علموا أنّ آلهتهم لم تغن عنهم شيئاً فحصل لهم الهدى بعد ذلك، وكانوا من خيرة المسلمين ونصروا الله حقّ نصره‏.‏ فالمراد من نفي الهدى عنهم‏:‏ إمَّا نفيه عن فريق من المشركين، وهم الّذين ماتُوا على الشّرك، وإمَّا نفي الهدى المحض الدالّ على صفاء النّفس ونور القلب، دون الهدى الحاصل بعد الدّخول في الإسلام، فذلك هدى في الدرجة الثّانية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتَل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏